وضعية دفن الموتى في حضارات عصور ما قبل التاريخ في مصر القديمة
لطالما اعتبر المصريون القدماء أن الموت هو انتقال من الحياة إلى مرحلة أخرى، وليس نهاية لها، بل هو مجرد تغيير في شخصية الإنسان وليس فناؤها. وبناءً عليه، اعتبروا الموت هو أساس الحضارة ومركزها، إذ أن الموت يعني معايشة الحياة والتعرف على نهايتها، والاستبدال الرمزي لعوالم الأحياء بعوالم الموتى والسعي إلى الخلود واستمرار الحياة في عالم آخر.
أما بالنسبة لوضعية دفن الموتى في تلك الفترة، فقد كان يتم وضعهم في وضعية القرفصاء، وهي الوضعية التي كانت سائدة في ذلك العصر في جميع أنحاء أوروبا وشمال إفريقيا وكل آسيا. كان الجسد يُثنى والعمود الفقري منحني والساقان مثنيتان إلى حد قد يلامس فيه الفخذان أحيانًا الجسد ذاته، وتوضع اليدان أمام الوجه. وعلى الرغم من صعوبة تفسير هذه العادة، إلا أن هناك بعض الآراء في ذلك، منها؛ الاقتصاد في المكان والجهد المبذول في عمل المقبرة مع الأخذ في الاعتبار أن الأدوات المستخدمة في الحفر كانت لا تزال بدائية وصغيرة. وهناك رأي آخر وهو أن هذا الوضع أقرب الأوضاع الطبيعية إلى النوم، وهذا يذهب بنا إلى الاعتقاد بأن القدماء كانوا يعتبرون الموت ضربًا من الراحة التي يتوق إليها الإنسان البدائي دائمًا.
فيما يتعلق بحضارة مرمدة بني سلامة الواقعة غرب الدلتا – على بعد حوالي 51 كم شمال غرب القاهرة – كان يتم وضع المتوفى في وضع القرفصاء، مستلقيًا على جانبه الأيمن ومتجهًا بوجهه نحو الشرق.

في مرمدة بني سلامة، تم تخطيط المقابر بطريقة تسمح للمتوفين بمواجهة الشمال أو الشمال الشرقي، بينما في العمرة كانت أجسادهم تواجه الشرق. وفي حضارة مرمدة بني سلامة، لم يكن يتم دفن الموتى في مقابر عامة، بل داخل حدود القرية البدائية، وأحيانًا تحت أرضيات منازلهم بالقرب من أماكن إشعال النار، مما أدى إلى الاعتقاد بأن الغرض من ذلك هو بث الدفء في أجساد الموتى. علاوة على ذلك، في هذه الحضارة، كان يُنظر إلى الموتى على أنهم جزء من المجتمع وأنهم لا يزالون يشاركونهم حياتهم.
ولكن الوضع كان مختلفًا بالنسبة لحضارة دير تاسا، إحدى حضارات الجنوب -على الجانب الشرقي للنيل بالقرب من البداري بمحافظة أسيوط- حيث كان يُوضع الميت أيضًا في هيئة القرفصاء، لكن على جانبه الأيسر، رأسه متجهًا ناحية الجنوب ووجهه في اتجاه الغرب.
وفي حضارة أخرى وهي البداري بمحافظة أسيوط -تمثل بداية عصر استخدام المعادن وخاصة النحاس- كان يوسد الميت أيضًا على جانبه الأيسر، رأسه ناحية الجنوب ووجهه في اتجاه الغرب، وهذه الوضعية هي ما أصبح عليها الوضع في أغلب عصور مصر القديمة. وفي البداري في الفترة المبكرة لم تكن المقابر بعيدة عن نطاق القرية، لكن بعد ذلك كان يتم دفن الموتى في مدافن منفصلة وبعيدة عن نطاق مساكنهم، بمعنى أن كل أصبح يعيش في عالمه الخاص به.
بالرغم من ذلك، وجدت بعض الدفنات في عصور ما قبل التاريخ لأجساد متمددة الأطراف. على سبيل المثال، أقدم دفنة في تاريخ الحضارة المصرية يعود إلى حوالي 55000 قبل الميلاد لطفل من العصر الحجري القديم الأوسط في منطقة الترامسة. لم تتخذ هذه الدفنة وضع القرفصاء، ولكن مع ذلك كان الرأس متجهًا نحو الشرق.

ربما يمكن تفسير ذلك بأن وضع القرفصاء كان يتم بعد الوفاة الفعلية، وأن الدفنات التي وجدت ممتدة الأطراف ربما قد تصلب الجسد قبل القيام بهذه العملية.
يمكن تفسير الوضع الذي يرقد عليه جسد المتوفي والاتجاه الذي يوجه له من خلال العصور التاريخية. فالاتجاه نحو الغرب يفسر بأن الصحراء التي لا نهاية لها حيث تغرب الشمس أوحت للفكر المصري أن هناك مكانًا سيتجه إليه الموتى. وبما أن الصحراء الشرقية هي المكان الذي ستشرق منه الشمس كل صباح، فقد اعتُبر أن حياة الموتى ستتجدد بنفس النسق. أما بالنسبة للجنوب، فعلى اعتبار أن النهر يتدفق دائمًا من هذا الاتجاه، ثم إن اتجاه الرأس ناحية الجنوب حتى يمكن أن يواجه الجسد الغرب. أما تفسير اتجاه الشمال فيعتقد، وهذا من خلال نصوص دينية متأخرة، أن أرواح الموتى كانت تقطن بين النجوم في السماء الشمالية.
بالتالي كان للشعور الغريزي بالخوف من المجهول أثر كبير في دفع الإنسان إلى التفكير في المعتقدات المختلفة أو ما أطلق عليه اسم الدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
* ياروسلاف تشرني، الديانة المصرية القديمة، ترجمة أحمد قدري مراجعة محمود ماهر طه، دار الشروق، القاهرة، ١٩٩٦م.
* يان أسمان، الموت والعالم الآخر في مصر القديمة، ترجمة محمود قاسم، مراجعة هليل غالي، ج١، الطبعة الاولي، المركز القومي للترجمة، 2017.
* Alan H. Gardiner and K. Sethe, Egyptian Letters to the Dead (London,1928).
* Alfred Wiedeman, Religion of the Ancient Egyptians ,New York, 2003.
* E. A. Wallis Budge, Gods of The Egyptians or Studies In Egyptian Mythology, Vol I, London,1904.
* G. Brunton & Caton – Thompson, The Badarian Civilisation, London, 1928.
* G. Brunton, Mostagedda and the Tasian Culture ,London, 1937.
* H. Frankfort, Ancient Egyptian Religion, New York,1961.