أحمس الثاني: فرعون من العامة على عرش مصر القديمة قرابة نصف قرن
أحمس الثاني أو أمازيس كما أطلق عليه الإغريق، أحد الملوك الذين حكموا مصر في فترة العصور المتأخرة، وتحديدًا في عصر الأسرة السادسة والعشرين، والتي تمثل عصر النهضة خلال العصور المتأخرة. الجدير بالذكر أن أحمس الثاني كان من عامة الشعب ولم يكن من أسرة كبيرة ذات نفوذ أو من أصل ملكي، لذلك لم يجد في البداية الاحترام والقبول، وربما يعود ذلك إلى أنه لم يسبق لأي فرد من عامة الشعب أن ارتقى العرش من قبل، أو بعبارة أخرى لم يعتد الشعب على وجود شخص يحكم البلاد لا يجري في عروقه الدم الملكي. ومع ذلك، فقد تمكن من كسب ثقتهم فيما بعد.
وصوله إلى العرش:
كان أحمس الثاني أحد القادة في الجيش المصري، حيث قاد المصريين في عهد بسماتيك الثاني، في الحملة التي أرسلها إلى الجنوب – وهي حملة اشترك فيها مع الجنود المصريين جنود مرتزقة من الإغريق والكاريين بالإضافة إلى وجود آخرين من الصحراء الغربية، وربما كان هناك عدد من اليهود المتمصرين – بسبب قيام بعض المشكلات في الجنوب.
استمر أحمس الثاني في الجيش وكان قائد الجيش في عهد الملك إبريس (واح أب رع). وخلال هذه الفترة، حدثت بعض الظروف التي مكنت أحمس من الوصول إلى العرش، وتمكن هو بحنكته من الاستفادة منها على أكمل وجه. في هذه الفترة، انتشر الإغريق في البلاد بكثرة وتحكموا في مقاليد الحرب والسياسة والاقتصاد، مما أثار مشاعر الحقد والكراهية من المصريين ضد هؤلاء القوم الذين استأثروا بخيرات البلاد. أضف إلى ذلك محاباة الملوك لهم، واتخذوا منهم حرسًا خاصًا لهم، بالإضافة إلى وضعهم في حاميات الحدود، الأمر الذي حدث في عهد بسماتيك واستمر في عهود خلفائه، ولكن اشتدت هذه الظاهرة في عهد إبريس مما أدى إلى إثارة مشاعر المصريين وقتله في النهاية.
ولكن الشرارة التي أشعلت الثورة ودفعت المصريين للثورة ضد ملكهم أبريس، في تلك الفترة نشأ نزاع مرير بين القبائل الليبية الممتدة حتى تونس الحالية، وجماعات من الدوريين اليونانيين الذين استعمروا برقة استعمارًا تجاريًا سرعان ما تحول إلى استعمار سياسي، وأصبحوا من خلاله سادة البلاد واتخذوا قورينة عاصمة لهم، وازداد ضيق الليبيين بهم فطلبوا العون من مصر فأرسل لهم جيشًا من المصريين وليس اليونانيين، لكن الجيش وقع في كمين ولم يعد منه إلا القليل، وعند عودتهم اتهموا الملك المصري بأنه دبر لهم هذه الحملة ليتخلص منهم ويزداد تسلطًا على مصر، وأعلنوا الثورة ضده، وكما سبق القول أن أحمس الثاني كان قائد جيشه فاستدعاه للتفاوض مع الثوار، لكن الأمور تحركت في وجهة مختلفة تمامًا، فقد اجتذبه الثوار إلى جانبهم، وليس هذا فحسب بل عهدوا إليه بزعامتهم، وهاجم الفرعون المصري وأسره ويبدو أنه أجبره على إشراكه معه في الحكم، لكن ما لبث حتى تجدد القتال وتم قتل أبريس على أيدي الثوار وخلي الأمر لأحمس الثاني لاعتلاء عرش مصر.
سياسة أحمس الثاني الداخلية:
مع تولي أحمس الثاني العرش (570-526 قبل الميلاد)، واجه تحديًا كبيرًا تمثل في معالجة الأسباب التي أدت إلى ثورة الشعب ضد الملك السابق. كان عليه أن يثبت جدارته وكسب ثقة الشعب المصري الذي منحه الحكم.
في البداية، أظهر أحمس الثاني استياءه الواضح من اعتماد الملوك السابقين على الإغريق، واتجه إلى الاعتماد على القوات الوطنية. لكنه سرعان ما أدرك أن الاعتماد على القوات الوطنية وحدها لن يكون كافيًا نظرًا لضعف الجيش المصري في ذلك الوقت. لذلك، اضطر إلى الاعتماد على المرتزقة الإغريق.
كانت مهمة أحمس الثاني صعبة ومعقدة، لكنه تميز بالذكاء والحنكة. فقد نجح في إرضاء الشعب المصري دون التخلص من الإغريق أو اتخاذ موقف قد يؤدي إلى خسارة الصداقة مع العالم اليوناني والروماني، خاصة في ظل الخطر المتزايد من الفرس في تلك الفترة. وبالتالي، كان من الأفضل تقوية العلاقة مع الإغريق بدلاً من إضعافها.
لقد نجح أحمس في تحقيق هذا الهدف من خلال اتخاذ بعض الإجراءات، وهي:
- سحب القوات اليونانية والمتحدرة من أصل يوناني من حاميات الحدود وتركيزهم في أحياء خاصة بهم في مدينة منف. لم يكن ذلك من قبيل الصدفة، بل أراد أحمس الثاني أن يكونوا تحت رقابة بلاطه وفي الوقت نفسه أراد أن يكونوا أقلية في مدينة منف الكبيرة.
- أبعد التجار اليونانيين عن مناطق الاحتكاك المباشر مع المصريين ومنعهم من التجوال في الأسواق الداخلية، لكنه لم يمنعهم من حرية العمل بشكل عام.
- سمح لهم بالتركز في بلدة نقراطيس، وهي بلدة تقع على الجانب الغربي على الفرع الكانوبي في نطاق الإقليم الصاوي. تقوم على أنقاضها بلدة نقرش وكوم جعيف في محافظة الإسكندرية.
- عمل أيضًا على توثيق علاقات الود مع اليونانيين والمتحدرين من أصل يوناني في الخارج، حيث قدم القرابين للمعابد اليونانية وعقد حلفًا مع قرنة في الغرب. ويقول هيرودوت أنه تزوج منها كما تزوج من كريتيه.
وعند تحليل الموضوع من منظور آخر، نجد أن أحمس الثاني لم يتبع سياسة مختلفة عن تلك التي اتبعها الملوك السابقون، سواء كان بسماتيك الأول ونيكاو الثاني وبسماتيك الثاني وصولاً إلى إبريس الذي اشتد في هذه السياسة مما أدى إلى قتله في النهاية. لم يتبع أحمس الثاني سياسة مختلفة، ولكنه أحسن التصرف في الموقف بحنكة وذكاء مكنته من تحقيق أهدافه، فهو لم يستغن عن الإغريق بل على العكس قوى علاقاته بهم، وفي الوقت نفسه راعى مشاعر ومصالح المصريين، وأن كنا لا ندري حقيقة هذه المشاعر ولكن يبدو أنه ظل يتمتع بشعبية كبيرة خصوصًا أنه استمر في الحكم فترة لا تقل عن 44 عامًا.
تجدر الإشارة إلى أن هيرودوت يذكر أن أحمس الثاني سن قانونًا يلزم كل مصري بأن يتقدم سنويًا إلى حاكم منطقته، ليبين له مصادر دخله سواء كانت مشروعة أم غير مشروعة، وإذا عجز عن إثبات مصادر رزقه، يحق عليه الإعدام. وأضاف أن المشرع اليوناني سولون قد اقتبس هذا القانون منه وطبقه في أثينا، وإن كان في هذا شك، وأن كان هدف أحمس من هذا القانون هو فرض ضريبة على الدخل العام، والحد من الكسب غير المشروع والبطالة التي انتشرت في تلك الفترة.
سياسته الخارجية:
وعلى الرغم من ميل أحمس الثاني إلى السلام والسياسة، وصداقته مع العالم اليوناني، إلا أن كل ذلك لم يمنعه من منافستهم في البحر المتوسط، حيث استولى أسطوله على جزيرة قبرص.
وعقد أحمس الثاني في تلك الفترة مجموعة من المعاهدات للحد من خطر الفرس الذي يحوم في الأفق، حيث تحالف مع كريسوس ملك ليديا، وبوليكراتيس طاغية ساموس، وهناك احتمال أن الحلف امتد إلى أسبرطة وبابل، لكن الفرس تمكنوا من القضاء على هذه البلاد وأوقعوها تحت سيطرتهم.
ودون الخوض في تفاصيل هذا الغزو بالنسبة لمصر والذي تمكن من احتلالها عام ٥٢٥ قبل الميلاد على يد قمبيز، لكن كان ذلك بعد وفاة أحمس الثاني الذي توفي عام ٥٢٦ قبل الميلاد بعد حكم دام ٤٤ عامًا، وبوفاته فقدت مصر ركنًا قويًا كان له كفايته وأهميته وشعبيته.
في نهاية المطاف، يمكن القول إن الظروف ساعدت أحمس في الوصول إلى عرش مصر، لكن بقاءه على عرشها مدة لا تقل عن 44 عامًا لا يُعزى إلى الظروف وحدها، بل إلى صفات شخصيته الفريدة. لقد استطاع أحمس، وهو من عامة الشعب، الوصول إلى رأس الهرم بفضل ذكائه وحنكته. لقد استغل الظروف والفرص المتاحة له بمهارة، وتمكن من توجيه الأمور في الاتجاه الصحيح. كما نجح في كسب المصريين والإغريق إلى جانبه.
ومع ذلك، كانت هناك بعض السلبيات في حكمه؛ بالرغم من أنه تمكن من الاستيلاء على جزيرة قبرص، لكن روح السلام وحب الأمن الداخلي وفترة السلم الطويل أدت إلى خمول الجيش. فأصبح الجيش خاملاً واستكان للأمن والسلام، مما أفقد روح الجندية. كما أنه لم يُشرك ابنه معه في الحكم كما كان يفعل أسلافه، خوفًا من أن يقاسمه الحكم، وأصبح ابنه ملكًا وتولى الحكم بدون أي خبرة في الحكم أو الحرب.
كل هذه العوامل، بالإضافة إلى عوامل أخرى، أدت إلى سهولة وقوع مصر في قبضة الفرس فيما بعد. لكن خلال فترة حكمه، حافظ أحمس على البلاد وقوى علاقاته الخارجية وحاول النهوض بالدولة. لقد تمكن من حماية الدولة من التفكك والثورة وعالج الأمور بذكاء مكنه من الحفاظ على البلاد خلال فترة حكمه الطويل.
ــــــــــــــــــــ
المراجع:
- – ديودور الصقلي في مصر، ترجمة وهيب كامل، دار المعارف، القاهرة، 1947م.
- – سليم حسن: مصر القديمة، الجزء الثاني عشر، القاهرة، 1957م.
- – عبد العزيز صالح: الشرق الأدنى القديم (مصر – العراق)، ج1، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 2012م.
- – مارك فان دي ميروب، حضارة مصر القديمة، ترجمة علاء الدين عبد المحسن شاهين، مراجعة محمد إبراهيم أبو بكر، الطبعة الأولى، المركز القومي للترجمة، 2022م.
- – هنري برستيد، تاريخ مصر منذ أقدم العصور إلى الفتح الفارسي، ترجمة حسن كمال، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط2، 1996م.
- هيرودوت يتحدث عن مصر، ترجمة محمد صقر خفاجة، تقديم وشرح أحمد بدوي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2007م.
• Sauneron et Yoyotte, “La campagne nubienne de Psammétique II et sa signification historique” (1952).
• Spence, Myths and Legends of Ancient Egypt (1979).
• The Cambridge Ancient History, vol. IV (Cambridge, 1922).
• Wiedmann, A., “Nebuchadnezzar Und Aegypten.” ZAS 16 (1878).
• Yamauchi, E. M., Greek and Babylonian (Michigan, 1967).